الجذور الأولى.. طفولة صنعت حلم الطب
كتب/ يحيى كرد
في مديرية المراوعة بمحافظة الحديدة عام 1965 ولد الدكتور عبدالرحمن محمد صالح جارالله، ليكون شاهدا على بداية قصة علمية وإنسانية ملهمة. منذ سنوات طفولته الأولى، كان شغوفا بالعلم، مولعا بمادتي الكيمياء والأحياء، وهو شغف لم يكن عابرا بل تحول إلى دافع قوي رسم مساره نحو مهنة الطب. التحق بمدرسة الثغر النموذجية، ثم انتقل إلى مدرسة الصباح الإعدادية، ليواصل بعدها مشواره في مدرسة الثورة الثانوية بالحديدة حتى تخرجه في العام الدراسي 1984–1985. تلك المراحل لم تكن مجرد محطات تعليمية، بل كانت اللبنات الأولى لشخصية علمية صلبة مؤهلة لحمل رسالة كبرى.
من مقاعد الدراسة إلى كلية الطب في صنعاء
بعد إنهاء دراسته الثانوية وأداء الخدمة الإلزامية عام 1986، التحق بكلية الطب والعلوم الصحية بجامعة صنعاء، وهي النقطة المفصلية التي رسمت طريقه نحو تخصص نادر وصعب: الطب النفسي والعصبي. على مدى سنوات دراسته بين 1987 و1993، أثبت حضوره المتميز بين زملائه، ثم أكمل سنة الامتياز 1994–1995، ليخرج بعدها طبيبا مؤهلا، مسلحا بالعلم والمعرفة، ويمتلك الإرادة لخوض التحديات الطبية التي تنتظره.
الانطلاقة المهنية في مستشفى الثورة
بدأ الدكتور عبدالرحمن مشواره المهني طبيبا في قسم الطوارئ بمستشفى الثورة (1995–1996). كانت تلك التجربة أول اختبار حقيقي لمهاراته الطبية والإنسانية، حيث تعامل مع حالات حرجة تطلبت سرعة اتخاذ القرار ودقة في الأداء. سرعان ما انتقل إلى قسم الأمراض النفسية والعصبية في المستشفى ذاته (1996–2000)، وهناك وجد شغفه الحقيقي، إذ وهب نفسه للتخفيف من معاناة المرضى النفسيين الذين كانوا يواجهون نظرة مجتمعية قاسية، فجمع بين العلم والرحمة ليعيد إليهم الأمل في حياة أفضل.
من الطبيب إلى المدير.. خبرة تقود مؤسسات
لم يكتف الدكتور عبدالرحمن بممارسة المهنة كطبيب فقط، بل انتقل إلى مواقع إدارية قيادية جعلت منه نموذجا للطبيب المدير الناجح. تولى إدارة مستشفى دار السلام للأمراض النفسية والعصبية (2000–2008)، ثم مستشفى العلفي بالحديدة (2008–2012). في كلتا المؤسستين، أحدث نقلة نوعية في مستوى الخدمات الطبية، وأدخل أنماطا جديدة من الإدارة الحديثة، مستفيدا من خبراته المتراكمة وتدريباته في إدارة المستشفيات، ليصبح اسمه مرادفا للإصلاح والنجاح في العمل الطبي والإداري.
العطاء الأكاديمي وتخريج أجيال من الكوادر
بجانب مهامه الطبية والإدارية، حمل الدكتور عبدالرحمن على عاتقه مهمة التعليم ونقل الخبرات للأجيال الجديدة. عمل أستاذا محاضرا في المعهد الصحي للعلوم الصحية بالحديدة بين 1996 و2008، كما درس في كلية الطب بجامعة الحديدة، وألقى محاضرات في علم النفس بكلية الآداب (1998–2004). هذا الدور الأكاديمي لم يكن مجرد مهنة إضافية، بل رسالة إنسانية لتخريج كوادر صحية مؤهلة قادرة على سد فجوات القطاع الطبي في البلاد.
التدريب الدولي.. خبرات عالمية في خدمة الوطن
لم يتوقف شغفه عند حدود التعليم الجامعي، بل سعى إلى تطوير نفسه من خلال برامج تدريبية متقدمة في الخارج. ففي عام 2006 تلقى تدريبا متخصصا في تخطيط الدماغ والأعصاب بألمانيا، وفي 2009 خضع لدورة في إدارة المستشفيات بدمشق، ثم التحق عام 2013 ببرنامج تدريبي في مستشفى بولونيا للأمراض النفسية في إيطاليا. هذه الخبرات العالمية أضافت إلى رصيده العلمي بعدا دوليا، جعل منه طبيبا متمكنا وقائدا قادرا على تطبيق المعايير الطبية الحديثة.
المؤتمرات العلمية.. حضور يرسخ المكانة الطبية
إلى جانب التدريب، كان الدكتور عبدالرحمن حاضرا في مؤتمرات علمية عالمية وعربية، أبرزها مشاركته في الاتحاد العالمي للطب النفسي بالقاهرة 2005، والجمعية النفسية العربية بقبرص 2007، ومؤتمرات الأمراض العصبية في كوالالمبور 2012 وتركيا 2013. هذه المشاركات لم تكن مجرد حضور شكلي، بل مثلت فرصة للاطلاع على أحدث البحوث الطبية وتبادل الخبرات مع كبار الأطباء والمتخصصين حول العالم.
النشاط النقابي.. الدفاع عن حقوق الأطباء
لم يغب الدكتور عبدالرحمن عن الساحة النقابية، إذ عمل مسئولا ماليا لنقابة الأطباء والصيادلة بين 2004 و2007، ثم تولى منصب أمين عام النقابة (2007–2012). من خلال هذه المواقع، دافع عن حقوق الأطباء، وسعى لتطوير أوضاعهم المهنية والمعيشية، مؤكدا أن الاهتمام بالكادر الطبي هو الطريق إلى تحسين الخدمات المقدمة للمرضى والمجتمع.
قلم يكتب الوعي.. مساهمة فكرية في الصحافة
إلى جانب عمله الطبي، حمل الدكتور عبدالرحمن رسالة التوعية من خلال الصحافة، حيث كتب عمودا ثابتا في صحيفة الثورة بملحق "قضايا وناس" بين 2004 و2010. عبر مقالاته، تناول قضايا صحية ونفسية واجتماعية تهم المواطن، مسلطا الضوء على التحديات التي يواجهها القطاع الطبي، وداعيا إلى تبني رؤية أكثر إنسانية في التعامل مع المرضى النفسيين وذوي الاضطرابات العصبية.
مدير مكتب الصحة بالحديدة.. قيادة بحجم التحديات
عام 2012، تولى الدكتور عبدالرحمن مسؤولية مدير مكتب الصحة والسكان بمحافظة الحديدة، وهو موقع حساس تطلب قدرا عاليا من الكفاءة الإدارية والقدرة على التنسيق بين مختلف المؤسسات الصحية. خلال فترة عمله، أطلق مبادرات تهدف إلى تحسين مستوى الخدمات الصحية، وتوسيع نطاق الرعاية الطبية، ومواجهة التحديات التي فرضتها الظروف الاقتصادية والإنسانية الصعبة.
المركز المتخصص.. نموذج للرعاية النفسية والعصبية
حاليا، يدير الدكتور عبدالرحمن مركزا متخصصا في الأمراض النفسية والعصبية بمدينة الحديدة، وهو ثمرة مسيرته العلمية والمهنية الطويلة. في هذا المركز، يقدم خدماته للمرضى الذين يجدون في شخصه الطبيب الماهر والإنسان المتفهم لمعاناتهم، ليصبح ملاذا لآلاف الحالات التي تحتاج إلى رعاية خاصة. هذا الدور يثبت أن رسالته لم تنته، بل ما زالت متواصلة في خدمة المجتمع.
رئاسة اللجنة الطبية العليا.. مسؤولية مضاعفة
يشغل الدكتور عبدالرحمن اليوم منصب رئيس اللجنة الطبية العليا بمحافظة الحديدة، وهو موقع يجمع بين الخبرة الطبية والإدارية. من خلال هذا المنصب، يشرف على تنظيم وتطوير الخدمات الصحية، ويشارك في رسم السياسات الطبية التي تمس حياة المواطنين بشكل مباشر، ليبقى حاضرا في المشهد الصحي كصوت مسؤول وفاعل.
إنسانية تلامس قلوب المرضى قبل عقولهم
ما يميز مسيرة الدكتور عبدالرحمن ليس إنجازاته الأكاديمية والإدارية فقط، بل شخصيته الإنسانية التي تجلت في حرصه على خدمة الناس بلا تمييز. عرفه المرضى كطبيب رحيم يستمع بإنصات ويعاملهم باحترام، وعرفه المجتمع كقائد يضع مصلحة الإنسان في قلب قراراته، ليجسد نموذجا فريدا للطبيب الإنسان.
قصة إلهام للأجيال الجديدة
رحلة الدكتور عبدالرحمن جارالله تمثل درسا بليغا للأجيال الجديدة: أن النجاح لا يصنع بالصدفة، بل بالإصرار والعمل المتواصل. من طفل شغوف بالعلم في المراوعة، إلى طبيب بارع وأستاذ أكاديمي، ثم إداري ناجح وقائد نقابي، وأخيرا إنسان يضع خدمة المرضى فوق كل اعتبار. إنها مسيرة تلهم الشباب بأن الطريق إلى الريادة يبدأ بخطوة صادقة وحب عميق للعلم والإنسانية.
خلاصة المسيرة.. علم، إدارة، وإنسانية في خدمة اليمن
اليوم، وبعد عقود من العطاء، يقف الدكتور عبدالرحمن كواحد من أبرز أعلام الطب النفسي والعصبي في اليمن، وصاحب بصمة واضحة في العمل الإداري والإنساني. إن قصته ليست مجرد سيرة شخصية، بل قصة وطن يحتاج إلى مثل هذه النماذج التي تجمع بين العلم والإدارة والرحمة، وتؤكد أن بناء المستقبل يبدأ من الاستثمار في الإنسان.